مرت ذكرى توقيع اتفاق أوسلو المشؤوم هذا العام من دون أن يجري التوقف أمام النتائج الكارثية المستمرة التي أدى إليها ولا يزال في إلحاق الأذى الفادح بالقضية الفلسطينية.. فبعد نحو ربع قرن على توقيع هذا الاتفاق تحول المؤقت إلى دائم، والاحتلال تم تشريعه، والضفة الغربية والقدس الشرقية وقضية اللاجئين، الذين ترك مصيرهم للمفاوضات التي كان يعتقد من وقعوا أوسلو أنها ستنتهي خلال سنوات قليلة بإقامة الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967، باتوا هم أيضاً عرضة للتصفية والشطب بموجب صفقة القرن الترامبية.
أما المفاوضات فقد علقت، وإذا ما استؤنفت فإن المطلوب من قيادة السلطة أن توافق على هذه الصفقة.. أي أن تتنازل أيضاً عن حق العودة وعن المطالبة بالقدس الشرقية كما تخلت في أوسلو عن القدس الغربية، وأن تعترف بوجود الدولة اليهودية وعاصمتها القدس الموحدة، وذلك مقابل إقامة حكم ذاتي في مناطق الكثافة السكانية الفلسطينية موصولاً باتحاد كونفدرالي مع الأردن، فيما يتم ربط قطاع غزة بمصر وبالتالي تتم تصفية قضية فلسطين وشطب الهوية الفلسطينية لمصلحة الإقرار بشرعية اغتصاب فلسطين التاريخية من قبل الصهاينة الذين استولوا عليها في سياق خطة استعمارية لتفتيت المنطقة وتقسيمها ووضع اليد على ثرواتها وبالتالي إخضاعها بصورة دائمة للهيمنة الاستعمارية الغربية، التي يشكل فيها الكيان الصهيوني حارسها الدائم والقاعدة المتقدمة في القلب منها..
ورغم ذلك فإن قيادة السلطة تكتفي بتقديم الشكاوى للمحاكم الدولية والمنظمات الدولية، وتصر على عدم مغادرة المفاوضات، رغم كل المصائب التي أدت إليها، ويعلن رئيس السلطة محمود عباس، وبفخر في الأمم المتحدة، أنه يتحدى أن يكون رفض يوماً قبول الدعوة للمفاوضات.. وكأن المفاوضات بحد ذاتها شكلت مكسباً للشعب الفلسطيني.. فيما الجميع بات يدرك أن وظيفة هذه المفاوضات منذ ربع قرن من توقيع أوسلو هي توفير الغطاء لكيان الاحتلال لمواصلة عمليات الاستيطان التي شهدت أكبر توسع لها في ظل أوسلو ومسرحية المفاوضات التي أرادتها حكومة العدو ووقعت في فخها قيادة السلطة ومنظمة التحرير..
والسؤال: لماذا ترفض قيادة السلطة والمنظمة عدم الخروج من اتفاق أوسلو الذي أعلن الاحتلال الصهيوني وفاته منذ زمن؟
المنطق يقول: لم يعد هناك ما يجعل هذه القيادة تستمر في التمسك بهذا الاتفاق، بل إن من يستفيد من بقائها فيه هو الاحتلال الصهيوني.. أما السلطة فإنها تتحمل مسؤولية مواصلة تقديم الخدمات الأمنية ولعب دور حماية الاحتلال عبر قمع المقاومين وملاحقتهم.
من الواضح أن قيادة السلطة والمنظمة قد غادرت نهائياً خيار النضال الوطني التحرري، إن كان عسكرياً أو شعبياً أو سياسياً، منذ قررت أن تتخلى عن هذا الخيار المقاوم والرهان على خيار التفاوض كخيار استراتيجي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه الشعار الذي جرى من خلاله تبرير الذهاب إلى المفاوضات.. وكانت النتيجة استشهاد رئيس السلطة ياسر عرفات بالسم الصهيوني عندما رفض في كامب ديفيد التخلي عن القدس وحق العودة، وحاول أن يناور ويوفر الغطاء لعودة العمل المقاوم.. لقد دفع ثمن اعتقاده بأن أوسلو سوف يوصله إلى إقامة دولة فلسطينية على حدود 67..
والقيادة الحالية التي تربطها وشائج التبعية مع كيان الاحتلال، أمنياً ومالياً واقتصادياً، وتتمتع بالامتيازات التي يوفرها لها استمرار التزامها بتنفيذ الشق الذي يخدم الاحتلال من اتفاق أوسلو.. لا يبدو أنها مستعدة لتحمل تبعات الخروج من هذا الاتفاق والعودة إلى مسار الالتزام بالثوابت الوطنية والقومية؛ لأن هذا الخيار سوف يفقدها الامتيازات التي تنعم بها من ناحية، ويجعلها تتحمل تبعات مواجهة الاحتلال من ناحية ثانية.
إن النتيجة التي يجب أن يدركها كل مقاوم ووطني فلسطيني وعربي، يتمسك بمواصلة النضال التحرري ضد الاحتلال ويرفض التفريط بالحقوق العربية التاريخية في كل فلسطين المحتلة، هي أن قيادة منظمة التحرير بصيغتها الحالية لم تعد حركة تحرر وطني منذ أن وقعت اتفاق أوسلو وتخلت عن الميثاق الوطني.. وأن الاستمرار في المراهنة على عودتها إلى الثوابت الوطنية والقومية، التي يتضمنها الميثاق، لم يعد ممكناً لاستعادة دورها التحرري.. وبات من الضروري والملح والأولوية العمل على إعادة تأسيس حركة التحرر الوطني العربية الفلسطينية لقيادة النضال المسلح والشعبي والسياسي ضد الاحتلال وإعادة توحيد طاقات الشعب العربي في فلسطين والوطن العربي في هذا المسار.. وأي استمرار في مواصلة الرهان على استعادة الوحدة بين من يؤمن بالمقاومة ومن يواصل الالتزام بأوسلو وينسق أمنياً مع الاحتلال، فإنه لا يفعل سوى إضاعة الوقت، لأنه يراهن على وهم، كمن راهن على تراجع الاحتلال عبر تقديم التنازلات وشهادات حسن السلوك له.. فكانت النتيجة الكارثية المستمرة.